حـــــــــــورية
بقلم الروائي والناقد الليبي رمضان العوامي
يحتم علينا الواجب الأدبي والمعرفي أيضا ، أن نعّمل البصيرة في عطاء هذه الأديبة المتقن ، والذي يرتقي حتى يبلغ منتهي الحس الإنساني ، وذلك لملامسته المباشرة والغير مبتذلة ولا متكلّفة ، لهموم مجتمعات عانت ومازالت تعاني من تهميش لكيانها ، وحرمان من حقوقها المشروعة ، وغياب العدالة والانصاف ، والعبث بأدميتها كمخلوقات بشرية ، جراء بطش وطغوة وتغّول جلّاديها ، وبذا فأن الحاجة ماسة لطرح هذ المآسي العنيفة والمزمنة ، والتي اثقلت أبناء تلك المجتمعات وعاقت حركتها نحو التقدم والرقي ، وهذا ما نلمسه بوضوح في عطاء هذه الاديبة الموجدة والمجدّة ، فهي تكتب ومداد قلمها يستقي من أحساس مواجع تلك الانفس، المداسة والمهملة علي قارعة التاريخ عبر الاحقاب ، تلك الأنفس المستكينة حينا لسياط الجلاد ، واللاهثة حينا لملاحقة الحياة عبر البحار وفي مواطن الاغتراب ، والغاضبة أحيانا أخرى لدرجة الانتحار، من اجل نيل حريتها وحقوقها التي اتخمت بطون الطغاة .
وهذه ليست نظرة سوداوية ، بقدر ماهي ازاحة غطاء عن تلك الوقائع المفجعة، بشكل لا مبالغة فيه ولا تضخيم ، وبعيدة كل البعد عن التفخيم الفراغي الاجوف ، الذي لجاء له الكثيرين لسد تجاويف نصوصهم .
هذا النص جاء نقلا وبأمانة لواقع معاش ، وفق سرد متوافق ، وتراكيب متقنة ببراعة ، وبناء ادبي رفيع ، خال من التكرار ، والتعرّج والاتكاءات النمطية ، متواتر ومسترسل بشكل يصعب وصفه ، وكأنه أسراب طيور مهاجرة ، امتزجت فيها لحظة المرارة بالعذوبة … عذوبة المشهد ، ومرارة الهجرة .
وهذا ينم على قدرة الكاتبة وسيطرتها على مقاليد امكانياتها ، بالإضافة الى مخزونها الغزير من المفردات اللفظية والدلالات ، والانتقاء الوصفي المتميز ، والايماء اللطيف الخفي ، وبهذا استطاعت ان تشخّص الصورة ، وان تضع المتلقي وسط ذلك الخضم وبكامل تفاصيله .
وكل هذا وذاك هو ما دعاني، لمحاولة الغوص في هذا النص وفق قدرتي المحدودة ، ومعرفتي البسيطة ، حيث اني لا ادعي الاحاطة الكاملة بكل ما ورائه … ، ولكنني اتجهت الي ” حورية ” مباشرة ، وحسب ادراكي انها هي الممثل الرئيسي والشرعي له، حيث…
يواجهك النص بتوهج ومنذ الوهلة الاولى بمفردة ( تفرّس ) …. والتي جاءت من ( الفراسة ) اي قراءة ما وراء المنظور ، للإيماء بوجوب تعمق الرؤية فيما وراء المطروح ، وهذا لا يمكن الا باتخاذ مكانا بجوار ” حورية ” .
ورغم ان الظاهر هو تفرّس “حورية ” عبر نافذة بيت ، الا انه يبدو ليس كالبيوت ، ولا ينتمي لذلك الحي … انها ترى من نافذته العمارات الشاهقة مجرد علب كرتون قابلة للاحتراق … بيت “حورية” يبدو انه اكبر من اية بناية ، وليس من الكرتون ، ولا يمكن احتراقه ايضا … انه بحجم وطن .
و امام ” حورية ” وعبر فضاء تلك النافذة تتوالى المشاهد … مشاهد الرزايا المتكاثفة عبر الازمنة الرديئة ، فوق ارض مقهورة وسماء تمطر الاحزان ، وبينهما فراغ يترع بقبح جاثم على كل موجود …
( … تتفرس الشارع المنسي الغارق في البؤس والشجن من نافذة بيتها وقد بدت لها العمارات علب كارتونية ستحترق في أية لحظة …)
( … تغوص في غيابات الأيام الحالكة وتعيد رسم الصور الفظيعة القاتمة التي مرت من هنا.. زمن القهر والعهر والعربدة والاستبداد والبغي التي تتقاسمها مع المشردين والكادحين والمنبوذين ..السماء المكفهرة المتجهمة العالقة بذاكرتها التي تمطر وابلا من المحن واليأس والألم، وشوارع الليل الغريبة الغبشة بالرماد والخذلان والعثرات والإعاقة تلك الشوارع المعبأة بالفراغ )
” حورية ” هي شاهدة العصور، وذاكرة الايام المتوالية بالفداحة دون هوادة … ” حورية ” ليست كما نظن ، انها اكبر من تصورها مجرد انثى تنتصب في فراغ نافذة … بل هي ذلك الحشد الثقيل والهائل من الالم الساحق ، واليأس المحاق ، المتمتّرس بنافذة الزمان ، في مواجهة انبلاج صبح ضاحك يتنفس ، بعد عسعسة ليل طويل مقيت بكل مفرداته القمئة ، من مسوخ نتنه ، وغربان ناعقة ، ورائحة مجون كريهة ، واشباح خبيثة …. ووباء عهر العقول….
(….الليل معسعس وأزقة المدينة وساحاتها قد خلت من الحركة العارمة والجلبة الصاخبة إلا من قلة أشباح تظهر هنا وهناك سرعان ما تختفي …)
(…وكلها مشاهد مألوفة باستثناء تلك السيارات الفخمة التي تشي بأن الغيلان المرعبة والغربان وعصابات الظلام والدجالين تجوب شوارع الليل، حيث كل شيء مباح فيها .. العهر والعربدة والنصب والمجون والمتاجرة بالبشر وتصفية الحسابات والقتل..)
و… تلفت ” حورية ” الي زاوية حالكة الظلمة .. ورغم ذلك فإنها ترى ، فتبصر بقوة الحرف والسيطرة علي شراع مركب التطّواف ، لتنقل لنا فاجعة مريعة ، فاجعة في شباب طاهر يفترض انه الامل القادم لبناء الاوطان … وتكشف لنا الزرية الكبرى بأنهم .. ( ولدوا بلا هوية … او بهويات منتهية الصلاحية ) … وتزداد الرزية تفجرا حين تخبرنا ( انهم مجرد ارقام … يفتشون عن وطن ) جمعتهم (الخطوب والنوائب واليأس وقارب الموت ) فقط…
ويضيف النص مقلبا المواجع فوق مجامر الايام المسّتعرة … بان المصيبة لم تضرب النصف فقط… ولكن لم ينجو النصف الاخر ايضا … فقد التحقت بالفتيان فتاة ، فتكت بها قسوة الحياة وخيانة الشريك وانعدام الامل في غد افضل … وربما حورية هي الاخرى ، لقد اختارت ان تقاسم اخوتها مذاق الموت في غياهب المجهول … اما غرقا تحت لجج اليم الغادر ، او ضياعا في بقاع الغربة الغارب … وكلاهما موت … فالاقتلاع من الاوطان موت وان استمرت المعيشة .
( … رابعتهم فستكون طالبة جامعية ، قهرها الضنك وظروفها المزرية ، وخيانة الشريك فقررت الالتحاق بهم عندما يجهزون …. ليبحروا … لا يأبهون بالمصير المعتم فاليأس قد وأد فيهم الإحساس بجمال الحياة .)
ولكن …. وعلي نحو فجائي …. وبعد استعداد الفتية والفتاة ، لرحلة الاّ نجاة …
هاهي ” حوريه ” تلوّح لنا بخيط رفيع من الامل ، ربما سيعقبه صباح مشرق ومهيب … بالرغم انّ لا ندري علي وجه اليقين ، عما اذا كان ذلك عاينته واقعا ، أو مجرد مراودة حلم قديم ، ام انه مجرد انفلات لأمنيات موؤده ، او انها فقط تلطّف ما أثارت به زوابع الاحزان ، واجج حنايا المهج ، وعصف بكوامن الانفس .
(…لوحت الأيادي ..صاحت الحناجر بأعلى صوتها وهتفت في الميادين باقتلاع جذور الباغي.. كانت الجموع كعاصفة هوجاء ثارت فجأة في وجه القشعم والحاشية ..وانقلب السحر على الساحر …)
ويعود بنا سرد ” حورية ” المدهش الي من حيث بدأت … من النافذة التي نفذت بنا الي فضاء ماتكن الصدور.
(….وأعجب الشبان بعظمة المشهد فتعاهدوا على قيادة الثورة والبقاء في أرض الوطن بعدما اكتشفوا النافذة المطلة عليه..)
وفي النهاية فأن ” حورية ” الشاهدة و الذاكرة ، قد اطلقت صرخات الغضب من عليائها ، لتطرق اسماع انفس موبوءة مشؤومة ، وتعلمها بانها امام نافذتها مكشوفة ، عارية ملعونة وممقوتة … انها صرخات حق ، يتردد صداها في ارجاء سماها ، الى ان تسقط كسفا علي الظالمين .
ولكن يا ” حورية ” عليك ان لا تجزعي ، فالصراع بين الخير والشر كان بين ( اخوين ) لا يشاركهما في الدنيا مشارك ، فما بالك بعالم يتنازعه الاشرار.
وفي الاخر اسمحي لنا ان نتسأل … من انت يا ” حورسية ” العين ؟ كيف لنا ان نفسر اسمك الجليل هذا ؟ … هل يعني انك تنتمي الى ذلك العالم النوراني ، بعيدة عن اراذل هذه الارض … لترقبي من علو سوءة افعالهم…؟ ام لكي ندرك انه لا نظير لك بيننا نحن الارضيين ،… وان نظيرك الوحيد في السماء … ؟ …هل هو ” حور” ذلك الكائن السماوي السامي والاسطوري ، الذي وقّره قديما سكان ( الارضين )… وصنعوا له من الذهب تماثيل … وترنموا له بأعذب الترانيم ؟
واخيرا اعذريني ايتها الحورية ، لان هذا ليس كل ما اردت ان اقول … ولكن هذا ما استطعت قوله.
دمتم بسلام .
بقلم الأديب والناقد الليبي رمضان العوامي

More Stories
حين تغيّر الحلم أو تغيّرنا نحن؟
كنتُ الأمان فاتهموني أني الوجع /حين شُبّهتُ بغيري وظُلِمت بصدق مشاعري
حين أخذتك السماء وأغلقت خلفك الأبواب